الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد
أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله
وأصحابه أجمعين ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم
بمنك وكرمك وعظيم فضلك يا أكرم الأكرمين . . . أما بعد :
فإننا سوف نستقبل بعد أيام قلائل ، يوماً عظيماً من أيام الله تعالى ،
يوماً مشهوداً ، ألا وهو يوم عرفة ، وبعده سيقدم يوم عيد الأضحى المبارك ،
وهو يوم الحج الأكبر ، ويوم النحر ، ولكلٍ من اليومين أحكام تخصه ، ولعلنا
نتطرق إلى بعض تلك الأحكام المهمة التي تهم المسلم ، ويريد تحريها ،
ومعرفة أحكامها ، حتى تكون عبادته لربه تبارك وتعالى على بصيرة وهدى ونور
، وأعظم ما فيهما من أحكام ، الأحكام التي تتعلق بالصيام ، فأقول بادئ ذي
بدء ، للصيام فوائد ومزايا كثيرة ، ينبغي للمسلم تتبعها وتقصيها ، حتى
يعمل بها ، ففي صيام التطوع من الفضيلة ما ذكره الله تعالى في كتابه
العزيز بقوله : " فمن تطوع خيراً فهو خير له " [ البقرة ] ، وقوله جل شأنه
: " وافعلوا الخير لعلكم تفلحون " [ الحج ] فكل إنسان يحتاج إلى فعل الخير
والعمل الصالح تقرباً إلى الله وتعبداً له وزيادة في الأجر والثواب فعطاء
الله لا ممسك له ، وثوابه لا حدود له ، فعلى المسلم أن يكثر من فعل الخير
والعمل الصالح يرجو بذلك أحد أمرين :
الأول : التقرب إلى الله بفعل الخير :
فصيام التطوع من الأعمال التي تقرب إلى الله تعالى ، وهو من أجلها على
الإطلاق كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : الصيام أفضل ما تطوع به ،
لأنه لا يدخله الرياء ، والرياء كما تعلمون محبط للأعمال مدخل للنيران
والعياذ بالله ، فالعبد مأمور بالإخلاص ولهذا قال الله تبارك وتعالى : "
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء " [ البينة ] ، وقال
تعالى : " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً " [ الفرقان
] ، وقال الله تعالى : " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن
نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً * ومن أراد الآخرة وسعى لها
سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً " [ الإسراء ] ، وقال جل وعلا :
" من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا
يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها
وباطل ما كانوا يعملون " [ هود ] ، وقال صلى الله عليه وسلم ، قال الله
تعالى : " أنا خير الشركاء من عمل لي عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء
وهو للذي أشرك " [ رواه الإمام أحمد ] ، فانظر هل سينفعك ذلك الإنسان إذا
وضعت في قبرك ويوم محشرك . ولهذا كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "
اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة " [ رواه ابن ماجة وصححه الألباني في
صحيح الجامع برقم 1313 ] .
فعموماً فصوم النافلة له مزايا عديدة من أعظمها أنه يباعد وجه صاحبه عن
النار ، ويحجبه منها ويحاج صومه عنه ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : " ما
من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم عن وجهه النار
سبعين خريفاً " [ متفق عليه ] ، وكثرة الصوم دليل على محبة الله للعبد ،
ويالها من منزلة عالية ومكانة رفيعة يحظى بها العبد عند ربه فما أن يكثر
من الصيام إلا ويحبه ربه ، ومن أحبه ربه وضع له القبول الأرض وفي السماء ،
قال صلى الله عليه وسلم : " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه "
. والفضائل كثيرة ونكتفي بما ذكرنا لأن المقام ليس مقام ذكر لفضائل ومزايا
الصيام وإنما هو لغرض آخر .
الثاني : جبر الخلل الحاصل في العبادة :
فالإنسان لا يخلوا من خطأ ونقص ومعصية ، فكانت النوافل تكمل الناقص من
الفرائض ومن ذلك الصوم ، فهناك مكروهات كثيرة قد يقع فيها صائم الفريضة
تنقص أجر صومه ، فشرعت النافلة لسد ذلك النقص وترقيع ذلك الخلل .
فكل ابن آدم خطاء ، والكل يجوز عليه الذنب والخطيئة ، فشرع التطوع لجبر
ذلك النقص ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " التطوع تكمل به
الفرائض يوم القيامة " [ رواه أحمد وأبو داود وغيرهما وصححه أحمد شاكر في
تحقيق المسند ] ، فالمسلم يسعى لزيادة الأجر ، وتحصيل المثوبة من الله
تعالى ، ولا يتأتى ذلك إلا بفعل الواجبات والإكثار من المستحبات ، ومنها
الصوم المستحب ، مثل صوم يوم عرفة . وهناك أيام وأشهر رغب النبي صلى الله
عليه وسلم في تحري صيامها لما فيها من أجر ومثوبة ، وهي من صوم التطوع .
ومن ذلك :
فضل صوم يوم عرفه :
وهو اليوم التاسع من ذي الحجة ، وقد أجمع العلماء على أن صوم يوم عرفة
أفضل الصيام في الأيام ، وفضل صيام ذلك اليوم ، جاء عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال :" صيام يوم عرفه أحتسب على الله أنه يكفر السنة التي
قبله والسنة التي بعده " [ رواه مسلم ] . فصومه رفعة في الدرجات ، وتكثير
للحسنات ، وتكفير للسيئات .
ماذا يكفر صوم يوم عرفة :
فعموماً لا ينبغي صيام يوم عرفة للحاج أما غير الحاج فيستحب له صيامه لما
فيه من الأجر العظيم وهو تكفير سنة قبله وسنة بعده . والمقصود بذلك
التكفير ، تكفير الصغائر دون الكبائر ، وتكفير الصغائر مشروطاً بترك
الكبائر ، قال الله تعالى : " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم
سيئاتكم " [ النساء ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " الصلوات الخمس
والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينها إذا اجتنبت الكبائر
" [ رواه مسلم ] .
صوم يوم عرفة للحاج :
فيستحب صيام يوم عرفه لغير الحاج أما الحاج فعليه أن يتفرغ للعبادة
والدعاء ولا ينشغل فكره وقلبه بالطعام والشراب وتجهيز ذلك ، فيأخذ منه جُل
الوقت ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال :" نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفة " [ رواه أحمد وابن ماجة وفي صحته نظر ] ،
وأيضاً مثله عند الطبراني في الأوسط من حديث عائشة رضي الله عنها قال : "
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفات " ، ويعضدهما
حديث : " أن الناس شكوا في صومه صلى الله عليه وسلم يوم عرفة ، فأرسل إليه
بقدح من لبن فشربه ضحى يوم عرفة والناس ينظرون " [ رواه البخاري ومسلم ] .